قصتنا اليوم عن شاعرٍ مدمن على الخمر تربى في مجالس العلم والشعر، أديب وأيضًا زنديق قصتنا اليوم عن أفصح شعراء الدولة العباسية أبونواس.
كان أبونواس متعلمًا في أصول الدين والشعر وليس جاهلًا أحمق ولكن هذا الشيء لم يمنعه عن ممارسة شذوذه وشربه للخمر وكان دائما يشرب الخمر مع أصحابه الجُهل وكان يقول بالخمر :
أَثْني على الخمرِ بآلائها
وسَمِّيها أحسَنَ أسمائها
لا تجعلِ الماءَ لها قاهرًا
ولا تُسَلِّطْها على مائها
حتى لقد جاء إليه مار وقال بهِ ويحك!،قم وصلِ! فرد عليه أبونواس وهو سكران :
دع المساجد للعبّاد تسكنها
وطف بنا حول خَمَّار لِيُسقينا
ما قال ربُكَ ويلٌ للذين سَكروا
ولكنه قال ويلٌ للمُصلينَا
ولكن قصتنا لهذه اليوم أرتبطت بجارية جميلة،فعندما وجود الشعر والخمر لأبد أن يكمل هذا النقص فلا يمكن للشاعر أن يتغزل دائما بالخمر،وفعلاً هذا ما حدث مع أبونواس، وكان أول كلفه بها أنها مرت،وهو جالس مع فتيان من أهلها يتنزهون وينشدهم،فأبرزت عن وجه بارع الجمال،فجعل ينظر إليها،وأنشأ يقول
إني صرفت الهوى إلى قمر
لم تبتذله العيون بالنظر
إذا تأملته تعاظمك إلا
قرار في أنه من البشر
ثم يعود الإنكار معرفة
منك إذا قسته إلى الصور
وشغف بها حبًا وهام بها، وقال فيها أشعارًا كثيرة وشكا وجده بحبها وهو لا يعرفها، وسأل عنها فلم يقع على خبر منها بعد اليوم الذي رآها فيه !
وتناقل أهل البصرة شكايته من حبها وشعره فيها، وأكثروا ذكره في كل محفل وجمع .
فمن هي تلك المرأة التي فعلت ذلك بأبي نواس شاعر الخمرة؟
تلك كنت جنان جارية لرجل من آل ثقيف، ويصفها أبو الفرج قائلا : " كانت جنان حلوة، جميلة المنظر، بديعة الحسن، أديبة عاقلة ظريفة، تعرف الأخبار وتروي الأشعار، وكانت مقدودة حسنة القوام " .
ولم تكن امرأة مثل أغلب جواري ذلك الزمان، بل كانت تفضل صحبة النساء على الرجال، وكانت حريصة على أداء فرائض دينها .
وقد بلغ أبا نواس يوما أن معشوقته جنان قد عزمت على الحج.
فقال : أما والله ما يفوتني الحج والمسير معها عامي هذا، إن أقامت على عزيمتها، فظُن مازحا، ولكنه لم يكن يمزح بدليل أنه سبقها إلى الخروج،فعاشق الخمر أول من خرج للحج،فكتب قصيدة في غاية الجمال ويقول بِها:
إلهنا ما أعدلك مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك والليل لما أن حلك
فقد ذهب فعلا إلى الحج، وأحرم، ويقول الذين شاهدوه بالحج، أنه جعل ينشد الشعر، ويطرب في صوته بالليل حتى فتن به كل من سمعه، وكان يقول :
جِنانُ إن وجُدتِ يا منايَ بما
آمُلُ لم تقطُرِ السماءُ دما
وإن تمادى ولا تماديتِ في
منعك أصبح بقفرةٍ رِمما
أما جنان نفسها فلم تكترث بحب أبي نواس لها وافتتانه بها، ولم تتحرك في قلبها أيّ عاطفة تجاهه، على الرغم من كل تلك الأشعار التي كان أبو نواس يعبر فيها عن حبه العميق لها، وكانت جنان تسخر من أبي نواس، حتى أنها خرجت ذات يوم هي وصاحبة لها حتى التقيا بأبي نواس
فلما رآها كاد أن يذهب عقله وتحير وراح يدبر ويقبل، أي أنه تصرف كتلميذ مراهق التقى مصادفة بمن يحب، وراحت صاحبة جنان تمازحه وتقول له : اجعلنى رسولاً إليها، فلعل الله أن يمن علي وعليك
فلما بلغ ذلك جنان غضبت من صاحبتها ، وقالت لها : مثل هذا الكلب تطمعينه في !
وكان أبو نواس يعلم أن جنان تحتقره وتسبه فقد تقرب من الثقفيين الذين كانت تنتمي إليهم وأصبح يزورها ويتحين الفرص ليبعث إليها بالرسائل التي تفيض حبا ووجدا، فكانت تسبه أمام من يرسلهم إليها، وتقول إنه كذاب.
على كل حال كانت نتيجة هذا الحب أن أهل جنان حجبوا جاريتهم عن أبي نواس، وأرسلوها إلى دار لهم في بلدة أخرى تدعى حكمان لكي ينساها، فكان يقصد الجبل بالبصرة فيسأل كل من أقبل من تلك الناحية .
فهو يتظاهر بالسؤال عن رجال آل ثقيف ولكن الكل يعلم أنه لا يعنيه إلا جنان
وقد بلغ ذلك الخبر مولاة جنان فبعثت إليه وقال له: إن أردت وهبتها لك .
ولكن جنان مانعت في الزواج منه، واشترطت عليه ألا يعود إلى شذوذه وشرب الخمر ، ولم يستطع هو أن يعدها بذلك .
وكانت نهايتهما وقال :
حامل الهوى تعب يستخفه الطربُ
إن بكى يحق له ليس ما به لعب
تضحكين لاهية والمحب ينتحبُ
تعجبين من سقمي صحتي هي العجبُ!
وبعد فترة من الزمن وبعد اللهو وطول العمر والكبر تاب أبونواس،وحينما أقتربت وفاته ومات وجدوا أسفل وسادته أبيات يتحدث عن توبته وقال:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظـمُ
إن كان لا يدعوك إلا محسـن
فمن الذي يرجو ويدعو المجرم
أدعوك رب كما أمرتَ تضرّعًا
فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحـم
ما لي إليك وسيلة إلا الـرّجـا
وجميل عفوك ثمّ أني مُسـلـم.
تعليقات
إرسال تعليق
اعزائي "اتهمنا آراؤكم واقتراحاتكم، ونسعد بمعرفتها"